Thursday, April 18, 2019

الأب ميشال حايك : هل كان المسيح بريئاً


الأب ميشال حايك في عظة الجمعة العظيمة: المسيح إقتحم كل شيء وجدّده … وقلَبَه.....


في مثل هذا اليوم، عُلِّق المسيح على خشبة عار، بعدما أُشبع هواناً وعذاباً. انها فضيحة تخفي الملائكة وجهها منها كما تقول الطقوس، بينما البشرية تجمع ممثلي النفاق لتتلذذ بفعل الرذيلة العظمى التي إرتكبتها. كانت هناك مؤامرة بين الحاكم والقاضي والكاهن والجندي على قتل البريء، لكن هل كان المسيح بريئاً حقاً أم قتل ظلماً؟

نعم كان بريئاً لكن في أخلاقية المحبة، كان بريئاً حسب الشرع الجديد. لكن لا، وألف لا، لم يكن بريئاً في نظر النظام الاجتماعي. وفي نظر النظام الكهنوتي وفي منظار الدين والدنيا من العهد العتيق. لقد إرتكب في منظار الدين والدنيا كل المحرمات وخلق المشاكل ولا يزال بنو الدين والدنيا الملتزمون بالعهد العتيق يقولون انه مجرم لأنه بلبل المقاييس وخرِب القِيَم وهتك النُظُم. أجل اي شيء أبقاه المسيح على حاله من ذلك الزمن؟

تعرّض لكل شيء. تعرّض أولاً لأنظمة الطبيعة، فولِدَ على غير ما يولد الناس مبدعاً ولادة جديدة بفعل الروح لا بفعل اللحم والدم. رفض أن تتحكّم الطبيعة بالإنسان من دون رادع فأسكت العاصفة على البحر بكلمة منه ومشى على المياه. ولِمَ يُحرَم المشي على الماء ويقتصر على اليابسة؟ من جاء بهذه الشريعة؟ لِمَ يجب الرضوخ لهذا الناموس الطبيعي؟ لماذا يجب أن يبقى الأعمى منذ مولده أعمى طوال عمره والمُقعد مُقعَد الى ما شاء الله؟ ولماذا يجب أن يبقى الميت ميتاً؟ لم يمتثل المسيح لنواميس الطبيعة، ففتح عين الأعمى وأنهض المُقعَد وأقام الميت من قبره.
من قال ان حتمية الطبيعة لا مفرّ منها؟ خلخل نظامها، قضى على القضاء والقدر، أطلق الحرية التي لا حدّ لها، تصوروا النتائج في نظام المجتمع. ولم يكتف بنسف نواميس الطبيعة، إذ هتك الشرائع التي توارثها الناس من تقاليد الانسانية ومن مسلمات الوحي الديني. إنتهك حرمة السبت المقدس وأنذر بخراب الهيكل وهو بيت الله ومحل مجده. وأبطل من التوراة رسومها المنزلة من العبادات والمعاملات. والرسوم التي أنزلها الله على أعلى جبل في سيناء لعبده موسى. إنتهك كل هذه المحرمات وجعل نفسه وهو إبن الانسان، أي جعل الانسان فوق الهيكل وفوق السبت وفوق الكتاب.

وتعرّض أيضاً لله، إله الغيب جعله حضوراً، الإله البعيد قرّبه، إله الجنود والبطش والسلطان جعله أباً رؤوفاً محباً للبشر، وحوّل البشر من عبيد الى بنين. ثم هتك أسرار الله الخفيّة فلم يحتفظ منها بشيء للغيَب، كأنه سلب من الله الكلمة سلباً، سلب الكلمة اي جاء بالكلمة وهو الكلمة، جاء بها الى الأرض واذاعها وأطلقها اي أطلق الحق والحرية. كشف بها عن هوية الله فإذا الله هو إنسان. إستدرج الله نفسه الى الموت فكان المستحيل، اي ان الله الذي لا يموت إختبر الموت، والانسان المائت قام الى الحياة. وبالنتيجة، لقد زجّ الله في الانسان وخطف الانسان في لا نهاية الله، لقد زعم وهو ابن الانسان أن الانسان مساوٍ لله.

لم يكن بريئاً، لأنه رفض الأوضاع القائمة في الدين والدنيا، في السماء والارض، في الطبيعة وفي التاريخ. اقتحم كل شيء وقلب كل شيء على باطنه. جعل الرحمة حيث كان الضحية ووضع الانسان حيثما كانت شريعة. جعل الملكوت في القلب والعبادة في الروح والحق لا هيكل الحجر وتمتمة التعاويذ، الى الداخل أدخل الانسان والله والملكوت ومع ذلك رفض أن يُدعى سيداً، رفض التجربة التي عُرِضت عليه فعُرِضت عليه ممالك الدنيا وما فيها. وحده بين زعماء الارض لم يرضخ لهوس الجماهير يوم أرادت أن تُنَصِّبه ملكاً. رفض التدجيل والزلف والألقاب، رفض أن يحمل سيفاً ليفرض بالعنف قضيته، كلمته هو، هو السيف الفاصل.

رفض أن يحمل فضة فلم يشتر ولم يبع أحداً. مات على الصليب ولم يكن له عقار ولا رصيد في متجر. رفض أن يملك ثروة ولو للخير فمات عارياً حتى من قميصه، رفض التقاليد كلها، جاء يجدد، جاء بكل شيء جديداً غصباً عن كل عتيق. وأخيراً رفض الرفض لما قبل الموت وإستقبله، ولم سلّم الموت أو بالأحرى لما سلّم اليه الموت فصرع الموت،” إبتلع الموت” كما يقول الرسول.
بعد مروره في التاريخ لم يبق شيء على حاله. وكل مرة مرّ بحياة قلبّها رأساً على عقب، عكَسَ نظامها ولم يبق شيئ على حاله. ولذا، فالمسيح لم يدع صالبيه في ذلك اليوم ينعمون بغبطة العيد الآتي ولم يدع أحداً يستريح من بعد ذلك العيد، فبين الأعياد والمعيّدين سيبقى أبداً خيال جمعة عظيمة، أبداً طيف مصلوب يطوي بهم ويعكّر الأفراح على الأعياد والمعيّدين، ليدلّهم أين مكان العيد وأين محل الفرح. أعيادهم قديمة وهو جاء بالفرح الجديد الذي لا ينتهي.

المشهد الذي عُرض يوماً على الجلجلة ذات يوم لن يبرح أبداً يواجه النفوس، يرافق الانسان، يواظب الزمن، والمصلوب لن ينفك يتعرّض لكل عابر سبيل. يستنطق الحشد البشري وكلماته السبع التي لا تزال ترّن في المسامع وتلاحق الناس، فالناس حيثما وجدوا وأنى توجهوا، عرفوا ذلك أم جهلوا، تسمّعوا أم اشاحوا ببصرهم وسمعهم، هم أبداً تجاه الحق المصلوب على العود. لأن ذاك العود هو المقياس والمعيار للحقيقة، فهم محرجون على المواجهة، مكرهون على المشاركة في المأساة. هم مدرجون فيها، رقاهم المسيح اليها فلن يستطيع أحد من بعد الحياد ولن يتنصّل أحد ويتبرّأ فيغسل يديه مثل بيلاطس ويبقى على الحياد، فالحياد أجبن أنواع الإلتزام ولا سبيل الى الحياة ولا سبيل الى الجبن، رضى أم عنوة، جيء بالجميع الى هنا، جيء للطعن مثل الجنود أو الشتيمة مثل اليهود أو للّعنة مثل لص الشمال أو للإستغفار مثل لص اليمين أو الوقوع موقع الصليب مثل المصلوب نفسه.

نحن حضور في تلك المأساة، شئنا أم ابينا نحن هناك، كل وقفة لنا في أتفه الأقوال والأعمال ولدى أي انسان هي وقفة لدى الصليب وهي موقف منه. وسائل التعذيب تملأ العالم والمعذبون أخوة المسيح يملأون الأرض حاملين الصليب، آتين من كل فجّ وحدّ وصوب، من المعامل والمصانع من السهول والجبال والغابات. من ضواحي العواصم وعلى مدّ البصر، في الشرق يملأون الشوارع والخيام، هؤلاء هم ضحايا الجمعة الأولى وبهم يستمر عذاب المسيح، منهم نتعرّف الى الجمعة العظيمة، إنهم حضورها، حضور المسيح. وليست الضحية هي إستمرار المسيح، بل الجلاد أيضاً هو إستمرار المسيح.

كانوا قبله يُصلب كل واحد وحده ويموت على إنفراد ومن بعده أصبح صليب المسيح هو الرابط بينه، فلن يهان ويُظلم ويموت أحد من بعد الا والمسيح معه. ولو كانوا لا يعلمون. أجل كل شيء تمّ على الصليب، هناك إتخذت الحياة والألم والموت معانيها، هناك إتصل كل شيء بمعنى. أجل، تمّ كل شيء، لكن بقي أيضاً أن يتم لكل انسان ما تمّ في المسيح، بقي أن يتمّ كل شيء ولن ينتهي كل شيء للمسيح والمسيحية ولا لأحد الا متى إنقرض نسل بيلاطس وسلالة هيرودس وعثرة يوضاس ولم يعد للشر أن يجد مندوباً واحداً يمثله في مؤتمر قمة الظلم المعقودة على الجلجلة. يعني المسيح والمسيحية لن ينتهيا من العذاب ومن الصلب حتى نهاية الدهر. وسيبقى الصليب مرفوعاً. ستستمر فضيحة الكون ما بقي في الأرض عطاش الى البّر ضحايا الظلم والعدوان، جياع الى العدالة والى الخبز، أسرى في الجهل والفاقة، عبيد لغطرسة الآلهة ولتحكمات العصبيات والأقدار.

رسالة الكنيسة ان تكون حاضرة هناك على أقدام كل صليب من اي نوع كان. أمّاً حنوناً مثل مريم واقفة لدى وحيدها الانسان العاري في اي زمان ومكان، حيثما توجد ضرورة لدفع ضريبة الخلاص، فلا يلهيها القبض عن الدفع مثلما التهى يوضاس الذي قبض عن المسيح. الذي دفع. ورسالة الكنيسة أن تحضر حيثما يجب أن ترتفع صرخة العدالة والإعتراض على الشر والموت. هذه الصرخة هي كلمتها تقولها، تهتف بها، لا من الشفاه بل من أعماق القلب وعليها أن تقلق الدنيا، أن تلاحق العالم وأن تتعقب العالم فتحاصره حتى في مخابىء الضمائر، أن تُكرِه الناس على السهر لدى بستان النزاع في مواجهة الظلم والشقاء والموت وعلى إرتقاء الجلجلة صعوداً للقيامة.

لا، ليست الجمعة الحزينة يوم الكنيسة بل أحد القيامة يومها المشهود. ولذا لا يمكن للكنيسة أن تكتفي بإثارة الحزن العقيم وإذاعته بالطقوس، بل حُتِّم عليها أن تطرد الحزن من الدنيا لأنها للفرح كانت هذه الكنيسة لا لتخدير المآسي، فلا يلهينا تمثيل آلام المسيح الماضية عن الالتزام بآلام المسيح الحاضر اليوم في جماعة المساكين ومثل المسيح الذي صالح العالم تُصالح الكنيسة العالم، ومثلما تحدى القدر تتحداه، ومثلما أهلك الانسان ليحييه تُهلك وتحيي، تُميت وتقوم، تكون أول من يتطوع للموت وتكون في طليعة القائمين، تكون في العالم كنيسة الجهاد والنزيف لا كنيسة التعازي والمراثي، كنيسة البطولة في كل يوم وساعة، معاصرة أبداً لذلك اليوم وتلك الساعة.

ايها المسيح المصلوب الذي خطط لنا بدمائه الطريق للحق والحياة، حيث علّقت هناك وسط الكون وملء الأزمنة، فأنت على جلجلتك قبلة الكائنات ومحور الأزمنة، إرتفعت فجذبت جميع الخلائق اليك. هي البيعة بإسم الجميع واقفة في ذهول لديك تتأمل بك وبصليبك وبالمحبة كيف تكون، على هامتك إكليل العار ونحن نطأطىء هاماتنا لديك، المسامير في يديك المبسوطتين ونحن نرفع أيادينا ضارعة اليك. أن هوانك هو مجدنا، أن قلبك المفتوح مدخلنا الى الملكوت، أن عطشك على الصليب هو عطش العالم الى الحق والمحبة، وغفرانك للصالبين هو رجاء برّ لكل حي وميت.
بينما نحيي تذكار موتك نسجد لآلامك، فحقق فينا سرّ قيامتك لنشهد بالحق أنك مخلّص العالم الذي يليق له الملك والعزة والمجد الى أبد الآبدين.
عظة الجمعة العظيمة - كاتدرائية مار جرجس – بيروت 2004

No comments: